كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولا خلاف أن هذه الأربعة الحرم لها ضرب من الاختصاص، وأنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وإذا خصها اللّه تعالى بأنها حرم، فلابد أن يكون لهذا الاختصاص معنى، وليس يظهر ذلك المعنى في حكم سوى المقابلة، وقد نسخ ذلك، أو تحريم القتل، حتى إن الدية تتغلط بالأشهر الحرم، فهذا وجه التخصيص.
قوله تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، على قول ابن عباس هو راجع إلى الجميع، وعلى قول بعضهم هو راجع إلى الأشهر الحرم خاصة، ومن يخصص بالأربعة يقول لأنها إليها أقرب ولها مزية تعظيم الظلم.
قوله تعالى: {يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}.
فيه دليل على أن اللّه تعالى وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها، على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض، وأنزل اللّه ذلك على أنبيائه في الكتب المنزلة، وهو معنى قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا}.
وحكمها باق على ما كانت عليه، ثم نزلها عن مرتبتها تغير المشركين لأسمائها وتقديم المؤخر، وتأخير المقدم، في الإسم فيها، والمقصود من ذلك اتباع أمر اللّه تعالى فيها، ورفض ما كانت عليه الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها، وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليها، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع في خطبته بالعقبة: «أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق اللّه السموات والأرض».
وإن الذي تجعله الجاهلية، من جعل المحرم صفرا وصفر محرما، ليس يتغيرن ما وضعه اللّه تعالى.
والذين صاروا إلى جعل بعض السنين ثلاثة عشر شهرا، ليس على ما توهموه، لأن اللّه تعالى لم يضع غير اثني عشر شهرا، فهذا وجه.
ويحتمل أن يكون قوله في كتاب اللّه، أن اللّه تعالى قسم الزمان في الأصل اثني عشر قسما، فجعل نزول الشمس في كل برج من البروج الاثني عشر، قسما منها، فيكون قطعها للفلك في ثلث مائة وخمس وستين يوما وربع يوم، فيجيء نصيب كل قسم منها بالأيام ثلاثين يوما وكسر، وقسم الأزمنة أيضا على سير القمر، فصار القمر يقطع الفلك كل تسعة وعشرين يوما ونصف، وجعل السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وربع يوم، واختلفت سنة الشمس والقمر، مع اتفاق أعداد شهورها، وكان تفاوت ما بينها أحد عشر يوما بالتقريب، وكانت شهور القمر ثلاثين وتسعة وعشرين، فيما يتعلق بها من أحكام الشرع، ولم يكن للنصف الذي هو زيادة على تسعة وعشرين يوما حكم، وكان ذلك هو القسمة التي قسم اللّه تعالى عليها السنة في ابتداء وضع الخلق، ثم جاءت الأمم فغيرت هذا الوضع، وكان قصدهم بذلك أن لا تتغير الشهور عن أوقاتها التي هي عليها شتاء وصيفا وخريفا وربيعا، فاقتضاهم ذلك أوضاعا مختلفة. فوضعت الروم اثني عشر شهرا، بعضها ثمانية وعشرون، وبعضها ثمانية وعشرون ونصف، وبعضها أحد وثلاثون، وكانت شهور الفرس ثلاثين إلا شهرا واحدا، وهو أباز ماه، فإنه خمسة وثلاثون، ثم كانت تكبس في كل مائة وعشرين سنة شهرا كاملا، فتصير السنة ثلاثة عشر شهرا، فأما أشهر العرب، فإنها تسعة وعشرون أو ثلاثون، وأبطل اللّه تعالى كبسه الفرس، وجعلها ثلاثة عشر شهرا في بعض السنة، وأبطل ما كان المشركون عليه من تغيير النظام، وصارت الشهور التي لها أسامي لا تؤدي الأسماء معانيها، لأنها تارة تكون في الصيف، وتارة تكون في الشتاء، وأراد اللّه تعالى أن يجعل شهر رمضان تارة في الصيف وتارة في الشتاء، استيغالهم مصالح الدين والدنيا في التخفيف تارة، وفي التغليظ أخرى، ولم يكن صومنا كصوم النصارى في الربيع لا يختلف.
قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [الآية: 37].
هو متعلق بما تقدم، وهو أن العرب كانت تجعل المحرم صفر وصفر المحرم في بعض السنين، على ما كانت تقضيه الكبسة التي كانت لهم.
وأول من وضع ذلك من العرب ملك لهم يقال له القلمّس، واسمه حذيفة، وهو أول من أنسأ النسيء، أنسأ المحرم، فكان يحله عاما ويحرمه عاما، فكان إذا حرمه كان ثلاثا حرما متواليات، وهي التي يقال ثلاثة سرد، وهي العدة التي حرم اللّه تعالى في عهد ابراهيم، فإذا أحله دخل مكانه صفر في المحرم لتواطئ العدة، يقول قد أكملت الأربعة كما كانت، لأني لم أحل شهرا إلا وقد حرمت مكانه شهرا، لكنه ليس مسرورا، فحج النبي صلّى اللّه عليه وسلم، وقد عاد المحرم إلى ما كان في الأصل، فأنزل اللّه تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ}، فأخبر اللّه تعالى أن النسيء الذي كانوا يفعلونه كفر، وأن الأشهر الحرم الثلاثة لابد أن تكون متوالية، وأن صفر لا يقام مقامها، فهذا معنى هذه الآية.
وقال قائلون في معنى هذه الآية إن روما من بني كنانة وغيرها، كانوا يؤخرون الحج عن وقته في كل سنة شهرا، فيوقعونه في المحرم بعد ذي الحجة، وفي السنة الثانية في صفر، فبين اللّه تعالى أن هذا الصنيع كفر.
قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفافًا وَثِقالًا} [الآية: 41].
وقوله تعالى: {ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [الآية: 38].
اختلفوا في عمومه، فمنهم من قال: إنه أراد به كل المؤمنين.
وعند أبي علي الجبائي الآية مخصوصة.
واختلف العلماء في وجوب هذا التغير:
فمنهم من قال: المراد به وجوب النفور إلى الرسول إذا دعا إلى الجهاد وأمر به، وهو الأصح.
ومنهم من قال: إن المراد به عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم.
وظاهر الآية يدل على أن ذلك على وجه الاستدعاء، فعلى هذا لا يتجه الحمل على وقت ظهور المشركين، فإن وجوب ذلك لا يختص بالاستدعاء، وإذا ثبت ذلك، فالاستدعاء والاستبقاء يبعد أن يكون موجبا شيئا لم يجب من قبل، إلا أن الإمام إذا عين قوما وندبهم إلى الجهاد، لم يكن لهم أن يتثاقلوا عنه، وله ولاية التعيين، ويصير بعينه فرضا على من عينه لا لمكان الجهاد، ولكن طاعة الامام واجبة، وإذا لم يكن كذلك وكان من أهل الثغور كفاية، فالذي قاله أصحابنا أنه يجب على الامام أن يفرق في الجهات الأربعة قوما في كل سنة، يظهر لهم النكاية في العدو، ويمنعهم ذلك من انتهاز فرصة الاحتشاد والاستعداد، وإذا حصلت الكفاية لقوم، سقط عن الباقين، فليس الجهاد على هذا الرأي فرضا على كل واحد، وإنما هو فرض كفاية، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين.
قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الآية: 40].
يستدل به على إضافة الفعل إلى غير فاعله، إذا كان منه تسبب، فإنه تعالى قال: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، وما أخرجوه حقيقة بل أخافوه حتى اضطر إلى أن يخرج، وكان الصديق معه، فتارة كان يمشي بين يديه، وتارة يمشي خلفه، وقال يا رسول اللّه: إذا ذكرت الرصد مشيت بين يديك، وإذا ذكرت الطلب مشيت خلفك.
وظن جهال الإمامية أن قول الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي بكر: «لا تحزن»، يدل على جهل منه ونقيصة، وذلك يوجب مثله في قوله تعالى لموسى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ}.
وقوله في قصة إبراهيم: {فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ}.
فإذا لم يكن ذلك طعنا عليهم ووصفا لهم بالنقص، فكذلك في أبي بكر، وليس حزنه من جهة الشدة والحيرة، بل لتجويزه وصول الضرر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، وإليه، وما كان الخبر أتاه بأن الرسول كان معصوما من القوم محروسا منهم، حتى قال له الرسول لا تحزن، فسكن إلى ذلك.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، نزل بعد الهجرة بسنين، فلا يوجب كون أبي بكر عالما بعصمته، ولو علم أنه يسلم منهم بنفسه لم يأمن مضرة بجراحة أو غيرها، وفي ذلك جواز الحزن والخوف عليه.
قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ} [الآية: 60].
ظاهر الآية أن المسكين غير الفقير.
وقال قوم: هما واحد، إلا أنه ذكرهما باسمين لتأكيد الأمر فيه، وليس ذلك بصحيح.
وإذا ثبت ذلك، فللشافعي وأبي حنيفة اختلاف في اللفظ في أيهما أعظم حاجة وأشد خصاصة، وليس يتعلق به كبير فائدة شرعية، وليس ببين أن يجعل المسكين صنفا والفقير صنفا، فيقال: يعطي الصنفان وهما فقيران إلا أن أحد الصنفين أشد فقرا من الآخر، فمن هذا الوجه يقرب قول من جعلهما واحدا.
ومطلق لفظ الفقر لا يقتضي الاختصاص بالمسلمين دون أهل الذمة، ولكن تظاهرت الأخبار في أن الصدقة تؤخذ من أغنياء المسلمين، وترد في فقرائهم.
والذي يمكن أن يفهم من الآية، ومن السنة، أن اللّه تعالى أطلق الصدقات، وبين الرسول عليه الصلاة والسلام أصناف الصدقات، وما تجب فيه الزكاة، وما لا تجب، والذي لا تجب قد تجب فيه إذا اتجر.
وقد حكي عن زين العابدين أنه قال: إنه تعالى علم قدر ما يرتفع من الزكاة، وأنه بما تقع به الكفاية لهذه الأصناف فأوجبه لهم، وجعله حقا لجميعهم، فمن منعهم ذلك فهو الظالم لهم رزقهم.
ولذلك قال قوم من العلماء: إن الزكاة تصير شركة للفقراء، وهو قول الشافعي.
وظاهر الآية يقتضي ذلك، لأن قوله: {إنما الصدقات للفقراء} كالتمليك وإنما لم يجعله تمليكا حقيقة من حيث جعل لوصف لا لعين، وكل حق جعل لموصوف، فإنه لا يملكه إلا بالتسليم، إلا أن ذلك لا يمنع استحقاق الأصناف لأنواع الصدقات، حتى لا يحرم صنف منهم.
واختلف العلماء في استيعاب هذه الأصناف: فمنهم من قال الفرض به بيان المصارف حتى لا يخرج عنهم، ثم الاختيار إلى من يقسم، وهو قول عمر وابن عباس وحذيفة وخلق من التابعين، كالحسن وابراهيم وغيرهما، حتى ادعى مالك الإجماع في ذلك.
وقال الشافعي وبعض أهل الظاهر: يتعين استيعاب الجميع إلا إذا عدم بعضهم، فيصرف نصيبه إلى الباقين.
فمن هذا الوجه، فارق إضافة الأموال إلى مستحقيها، وفارق الوصية إلى أقوام، فإنه إذا تعذر الوصول إلى بعض من أوصى له لا يصرف نصيبه إلى الباقين.
ورأى الشافعي أن استيعاب جهات الحاجات، يجوز أن يكون أعظم في القربة، ولا يجوز رفع المزية بلا دليل مع موافقة الظاهر له، وإذا تعذر البعض، فالأقرب إلى القربة الصرف إلى الباقين.
فعلى هذا لا نقول: إن الصرف على الأصناف على نحو صرف الوصاية إلى الأصناف والأشخاص، وأن الإضافة إليهم بلام التمليك، ولكنا ندعي أن استيعاب جهات الحاجات في القربة أو في الصرف إلى واحد.
وإذا ثبت زيادة القربة في المنصوص عليه لم يجز الغاؤه، وهذا بين.
وقد شنع علي بن موسى القمي على الشافعي بأن قال:
إذا كان قدر الواجب نصف دينار، وكان هو القاسم لذلك، ووجد السهمان كيف يفرق ذلك فيهم، ولا يسد مسدا، فإنه ينقسم نصف دينار على ثمانية أصناف، ويصرف من كل صنف إلى ثلاثة، فيحتاج أن يقسمه على أربعة وعشرين سهما، وأحد السهام المكاتبون، والمقصود إزالة الرق، وأي أثر لهذا القدر في إزالة الرق.
والذي ذكره جهالة تلزم عليه، إذا أوصى الموصي بها للأصناف.
ولأنه ليس الأمر مقصورا عليه وحده، بل إذا كان بينه وبين غيره حصل الاستيعاب، وحصل مقصود الأصناف منه ومن غيره، فلا معنى لهذا التشنيع.
ولا خلاف أن لا يجوز صرف الجميع إلى العاملين عليها، فإنه إنما يأخذ أجرته، فلو وضع فيه تناقض، فإنه يسعى للفقير، فكيف يأخذ الكل إلى نفسه، فهذا آخر فصول هذه الآية.
الفصل الآخر في الفقراء والمساكين، وقد ذكرهما اللّه تعالى باسمين، فقال بعضهم:
ذكرهما باسمين ليؤكد أمرهم في هذه الصدقات بأشد من تأكيد غيرهم.
ومنهم من قال: ذكرهما باسمين لكونهما صنفين، وهذا ما قدمناه.
ثم اختلفوا في معنى الفقير:
فمنهم من قال إنه المتعفف الساتر فقره عن الناس، وقد وصفه اللّه تعالى بذلك في قوله: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.. إلى قوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} والمسكين الذي يسأل إذا احتاج، ويمسك إذا استغنى، ويتخاضع للمسألة، وذلك هو اختيار الأصم.
ومنهم من قال: الفقير هو الضعيف الذي لا يسأل، والمسكين الذي يسأل، ورووه عن ابن عباس، وهو قريب مما قدمناه.
وقد قيل: الفقير هو الزمن الذي لا يقدر على التكسب، والمسكين الصحيح.
وقد قيل: الفقير أشد حاجة، فإنه مأخوذ من كسر فقار الظهر، والمسكين دونه في الحاجة.